الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
ومما سولت به نفس المترجم بإرشاد بعض الفقهاء عمارة جامع عمرو ابن العاص وهو الجامع العتيق وذلك أنه لما خرب هذا الجامع بخراب مدينة الفسطاط وبقيت تلالًا وكيمانًا وخصوصًا ما قرب من ذلك الجامع ولم يبق بها بعض العمار إلا ما كان من الأماكن التي على ساحل النيل وخربت في دولة القزدغلية وأيام حسن باشا لما سكنتها عساكره ولم يبق بساحل النيل إلا بعض أماكن جهة دار النحاس وفم الخليج يسكنها أتباع الأمراء ونصارى المكوس وبها بعض مساجد صغار يصلي بها السواحلية والنواتية وسكان تلك الخطة من القهوجية والباعة والجامع العتيق لا يصل إليه أحد لبعده وحصوله بين الأتربة والكيمان وكان فيما أدركنا الناس يصلون به آخر جمعة في رمضان فتجتمع به الناس على سبيل التسلي من القاهرة ومصر وبولاق وبعض الأمراء أيضًا والأعيان ويجتمع بصحنه أرباب الملاهي من الحواة والقراداتية وأهل الملاعب والنساء الراقصات المعروفات بالغوازي فبطل ذلك أيضًا من نحو ثلاثين سنة لهدمه وخراب ما حوله وسقوط سقفه وأعمدته وميل شقته اليمنى بل وسقوطها بعد ذلك فحسن ببال المترجم هذه وتجديده بإرشاد بعض الفقهاء ليرقع به دينه الخلق فاهتم لذلك وقيد به نديمه الحاج قاسم المعروف بالمصلي فجعله مباشرًا على عمارته وصرف عليه أموالًا عظيمة أخذها من غير حلها ووضعها في غير محلها وأقام أركانه وشيد بنيانه ونصب أعمدته وكمل زخرفته وبنى به منارتين وجدد جميع سقفه بالخشب النقي وبيضه جميعه فتم على أحسن ما يكون وفرشه بالحصر الفيومي وعلق به القناديل وحصلت به الجمعية آخر جمعة برمضان سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف فحضر الأمراء والأعيان والمشايخ وأكابر الناس وعامتهم وبعد انقضاء الصلاة عقد له الشيخ عبد الله الشرقاوي مجلسًا وأملى حديث من بنى لله مسجدًا وآية إنما يعمر مساجد الله وعند فراغه ألبس فروة من السمور وكذلك الخطيب فلما حضرت الفرنساوية في العام القابل جرى عليه ما جرى على غيره من الهدم والتخريب وأخذ أخشابه حتى أصبح بلقعًا أشوه مما كان فيا ليتها لم تتصدق وبالجملة فمناقب المترجم لا تحصى وأوصافه لا تستقصى وهو كان من أعظم الأسباب في خراب الإقليم المصري بما تجدد منه ومن مماليكه وأتباعه من الجور والتهور ومسامحته لهم فلعل الهم يزول بزواله.ومات
الأمير حسن بك الجداوي مملوك علي بك وهو من خشداشين محمد بك أبي الذهب مات بغزة بالطاعون وكان من الشجعان الموصوفين والأبطال المعروفين ولما انفرد علي بك بمملكة مصر ولاه إمارة جدة فلذلك لقب بالجداوي وذلك سنة أربع وثمانين ومائة وألف وابتلي فيها بأمور ظهرت بها شجاعته وعرفت فروسيته ولذلك خير يطول شرحه ولما حصلت الوحشة بين اسمعيل بك والمحمديين كان المترجم ممن نافق معه وعضده هو وخشداشينه رضوان بك وعبد الرحمن بك وكانت لهم الغلبة ونما أمره عند ذلك وظهر شأنه بعد أن كان خمل ذكره وهو الذي تجاسر على قتل يوسف بك في بيته بين مماليكه وعزوته ثم خامر على اسمعيل بك وانقلب مع المحمديين عندما خرج لمحاربتهم بالصعيد فخادعوه وراسلوه وانضم إليهم بمن معه ورجعوا الى مصر وفر اسمعيل بك بمن معه الى الشام واستقر هو وخداشينه في مملكة مصر مشاركين لهم مظهرين عليهم الشمم طامعين في خلوص الأمر لهم متوقعين بهم الفرصة مع التهور الموجب لتحذر الآخرين منهم الى أن استعجلوا إشعال نار الحرب فجرى ما جرى بينهم من الحروب والمحاصرة بالمدينة وانجلت عن خذلانهم وهزيمتهم وظهور المحمديين عليهم وقتل بها عدة من أعيانهم ومواليهم ومن انضم إليهم وربما عوقب من لا جناية له كما سطر ذلك في محله وفر المترجم مع بعض من بقي من عشيرته الى القليونجية فقبض عليه وأتى به أتى مصر ففر الى بولاق بمفرده والتجأ الى بيت الشيخ الدمنهوري فأحاط به العساكر فنط من سطح الدار وخلص الى الزقاق وسيفه مشهور في يده فصادف جنديًا فقتله وأخذ فرسه فركبه وفر والعساكر خلفه تريد أخذه وتتلاحق به من كل جهة وهو يراوغهم ويقاتلهم حتى خلص الى بيت ابراهيم بك فأمنه واتفقوا على إرساله الى جدة فلما أقلع به في القلزم أمر رئيس المركب أن يذهب به الى القصير وخوفه القتل إن لم يفعل فذهب به الى القصير فتوجه منها الى أسنا وعلمت به عشيرته وخشداشينه ومماليكه فتلاقوا به واستقر أمرهم بها بعد وقائع يطول شرحها فأقام نيفًا وعشر سنين حتى رجع إليهم اسمعيل بك بعد غيبته الطويلة وانضم إليهم واصطلح معهم الى أن كان ما كان من وصول حسن باشا الى الديار المصرية وإخراج المحمديين وإدخاله للمذكور مع اسمعيل بك ورضوان بك وأتباعهم وتأميرهم بمصر واستقرارهم بها بعد رجوع حسن باشا الى بلاده ووقوع الطاعون الذي مات به اسمعيل بك ورضوان بك وغيرهم من الأمراء فاستقل بمن بقي من الأمراء وفعل معهم من التهور والحمق والشر ما أوجب لهم بغض النعيم والحياة معه وخامر عليه من كان يأمن إليه فلم يسعه ومن معه إلا الفرار ورضي ذاك لنفسه بالذل والعار ودخلت المحمديون الى مصر المحمية واستقر هو كما كان بالجهة القبلية فأقام على ذلك سبع سنين وبعض أشهر الى أن وقعت حادثة الفرنسيس واستولوا على الإقليم المصري وحضرت العساكر بصحبة الوزير يوسف باشا ووقع ما وقع من الصلح ونقضه وانحصر المترجم مع من انحصر بالمدينة المصرلية والعثمانية فقاتل وجاهد وأبلى بلاء حسنًا شهد له بالشجاعة والإقدام كل من العثمانية والفرنساوية والمصرلية فلما انفصل الأمر وخرجوا الى الجهة الشامية لم يزل محرصًا ومرابطًا ومجتهدًا حتى مات بالطاعون في هذه السنة وفاز بالشهادتين وقدم على كريم يغفر الذنوب جميعًا أنه هو الغفور الرحيم وأمراؤه الموجودون الآن عثمان بك المعروف بالحسيني وأحمد بك أمره الوزير عوضًا عن أستاذه. ومات الأمير عثمان بك المعروف بطبل وهو من مماليك اسمعيل بك أمره في سنة اثنتين وتسعين ثم خرج مع سيده وتغرب معه في غيبته الطويلة فلما رجع الى مصر في أيام حسن باشا تولى إمارج الحج في سنة خمس ومائتين وألف وكان سيده يقدمه على أقرانه ويظن به النجاح ولما طعن وعلم أنه مفارق الدنيا أحضره وأوصاه وحذره من أعدائه وقال له إني حصنت لك مصر وسورتها وصيرتها بحيث تملكها بنت عمياء فلما مات سيده تشوق للإمارة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار فلم يرض كل منهما بالآخر وتخوفا من بعضهما فاتفق رأيهما على تأمير عثمان بك المذكور كبيرًا عوضًا عن سيده وسكن داره وعقدوا الدواوين عنده فنزل عن إمارة الحج لحسن بك تابع حسن بك قصبة رضوان واشتغل هو بأمور الدولة ومشيخة مصر فلم يفلح وخامر مع أخصامه وأخصام سيده والتف عليهم سرًا وصدق تمويهاتهم وخذل نفسه ودولته وذلك غيظًا من حسن بك كما سبقت إليه الإشارة وكل من حسن بك وعثمان بك الجداوي وعلي بك الدفتردار يتخوف نفاق صاحبه لتكرر ذلك منهما في الوقائع السابقة وانحراف طبع كل عن صداقة الآخر الباطنية ولم يخطر ببالهما بل ولا ببال أحد من المجانين فضلًا عن العقلاء ركون المشار إليه الى أعدائه وأعداء سيده العداوة الموروثة فكانا كلما شرعا في تدبير شيء من مكايد الحرب ثبطهما وأقعدهما وهما يظنان نصحه وقعتقدان خلوصه ومعرفته ولكونه تعلم سياسة الحروب من سيده لكثرة تجاربه وسياحته ولم يعلما أنه يمهد لنفسه طريقًا مع الأعداء الى أن كان ما كان من مساعدته لهم بالتغافل والتقاعد حتى تحولوا الى الجهة الشرقية وخص إليهم بمن انضم إليه من عشيرته فلم يسع الباقين إلا الهرب وأسلم هو نفسه لأعدائه فأظهروا له المحبة وولوه إمارة الحج حكم عهدهم بذلك وأن تكون له إمارة الحج مادام حيًا فخرج في تلك السنة أميرًا على الحج أعني سنة ست ومائتين وألف وكذلك سنة سبع ونهب الحج في تلك السنة وفر المترجم الى غزة فصودرت زوجاته واقتسمت أقطاعه ورجع بعد حين الى مصر وأهمل أمره وأقام بطالًا واستمر كآحاد الطائفة من الأجناد ويغدو ويروح إليهم ويرجو رفدهم الى أن حدثت حادثة الفرنسيس فخرج مع من خرج الى الشام ولم يزل هناك حتى مات بالطاعون في السنة المذكورة وكان دائمًا يقول عند تذكره الدولة والنعيم ذلك تقدير العزيز العليم. ومات الأمير عثمان بك المعروف بالشرقاوي وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب أيضًا الكبار وتأمر في أيامه وعرف بالشرقاوي لكونه تولى الشرقية ووقع منه ظلم وجبروت بعد موت أستاذه وصادر كثيرًا من الناس في أموالهم ثم انكف عن ذلك وزعم أن ذلك كان بإغراء مقدمه فشهره وقتله ولم يزل في إمارته حتى مات في الشام بالطاعون. ومات أيوب بك الكبير وهو أيضًا من مماليك محمد بك وكان من خيارهم يغلب عليه حب الخير والسكون ويدفع الحق لأربابه وتأمر على الحج وشكرت سيرته واقتنى كتبًا نيسة واستكتب الكثير من المصاحف والكتب بالخطوط المنسوبة وكان لين الجانب مهذب النفس يحب أهل الفضائل ذا ثروة وعزوة وعفة لا يعرف إلا الجد ويجتنب الهزل ويلوم ويعترض على خشداشينه في أفعالهم ولا يعجبه سلوكهم ولا يهمل حقًا توجه عليه وإذا ساوم شيئًا وقال له البائع هذا بعشرة يقول له بل هو بخمسة مثلًا وهذا ثمنها حالًا وقد يكون ذلك رأس مالها أو بزيادة قليلة ويرضي البائع بذلك ويقبض الثمن في المجلس وهكذا كان شأنه وطريقته. ومات الأمير مصطفى بك وهو أيضًا من مماليك محمد بك تولى الصعيد وإمارة الحج عدة مرار وكان فظًا غليظًا متمولًا بخيلًا شحيحًا في إمارته على الحج ترك زيارة المدينة لخوفه من العرب وشحه بعوائدهم وقلة اعتنائه بشعائر الدين وانتقد ذلك على المصريين من الدولة وغيرها وكان ذلك من أعظم ما اجترحه من القبائح. ومات الأمير سليمان بك المعروف بالآغا توفي بأسيوط بالطاعون وهو أيضًا من مماليك محمد بك الكبير وهو أخو ابراهيم بك المعروف بالوالي صهر ابراهيم بك الكبير وهو الذي مات غريقًا في وقعة الفرنسيس الأولى بإنبابة مدبرًا فارًا فسقط في البحر وغرق وكان هو وأخوه المترجم قبل تقلدهما الصنجقية أحدهما والي الشرطة والآخر أغات مستحفظان فلم يزالا يلقبان بذلك حتى ماتا وكان المترجم محبًا لجمع المال وله أقطاع واسعة خصوصًا بجهة قبلي وفي آخر أمره استوطن أسيوط لأنها كانت في أقطاعه وبنى بها قصرًا عظيمًا وأنشأ بعض بساتين وسواقي واقتنى أبقارًا وأغنامًا كثيرة ومما اتفق له أنه جز صوف الأغنام وكانت أكثر من عشرة آلاف ثم وزعه على الفلاحين وسخرهم في غزله بعد أن وزنه عليهم ثم وزعه على القزازين فنسجوه أكسية ثم جمع التجار وباعه عليهم بزيادة عن السعر الحاضر فبلغ ذلك مبلغًا عظيمًا. ومات الأمير قائد آغا وهو من مماليك محمد بك أيضًا وكان يلقب أيام كشوفيته بقائد نار لظلمه وتجبره وولي أغات مستحفظان في سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فأخاف العامة وكان يتنكر ويتزيا بأشكال مختلفة ويتجسس على الناس وذلك أيام خروج ابراهيم بك الى قبلي ووحشته من مراد بك وانفراد مراد بك بإمارة مصر فلما تصالحا ورجع ابراهيم بك رد الأغاوية لعلي بك فحنق المترجم لذلك وقلق قلقًا عظيمًا وترامى على الأمراء وصار يقول إن لم يردوا لي منصبي قتلت علي آغا أو قتلت نفسي فلما حصل منه ذلك عزلوا علي آغا وقلدوا سليم آغا أمين البحرين أغاوية مستحفظان ولم يبلغ غرضه ولم ترض نفسه بالخمول وأكثر عنده من الأعوان والأتباع فيحضرون بين يديه الشكاوى والدعاوى ويضرب الناس ويحبسهم ويصادرهم في أموالهم ويركب وبين يديه العدة الوافرة من القواسة والخدم يحملون بين يديه الحراب والقرابين والبنادق وخلفه الكثير من الأجناد والمماليك واتخذ له جلساء وندماء يباسطونه ويضاحكونه ولم يزل كذلك حتى خرج مع عشيرته الى الصعيد عند حضور حسن باشا فاستولى على كثير من حصص الأقطاع فلما رجعوا في أواخر سنة خمس بعد المائتين سكن دار جوهر آغا دار السعادة سابقًا بالخرنقش وقد كان مات في الطاعون وتزوج سريته قهرًا واستكثر من المماليك والجند وتاقت نفسه للإمارة وتشوف الى الصنجقية وسخط على زملائه والأمراء الذين لم يلبوا دعوته ولم يبلغوه أمنيته وصارت جلساؤه وندماؤه لا يخاطبونه إلا بالإمارة ويقولون له يا بك ويكره من يخاطبه بدون ذلك وكان له من الأولاد الذكور اثنا عشر ولدًا لصلبه يركبون الخيول ماتوا في حياته وكان له أخ من أقبح خلق الله في الظلم اتخذ له أعوانًا وأتباعًا وليس عنده ما يكفيهم فكان يخطف كل ما مر بخطته بباب الشعرية من قمح وتين وشعير وغير ذلك ولا يدفع له ثمنًا هلك قبله بنحو ست سنين بناحية قبلي وأتوا بجيفته الى مصر مقرفصًا ودفن بمدفن أخيه بتربة المجاورين ومن جملة أفاعيله القبيحة أنه كان يجرد سيفه ويضرب رقاب الحمير ويزعم أنه يقطعها في ضربة واحدة ولم يزل المترجم أخوه على حالته حتى خرج من مصر عند مجيء الفرنسيس وعاد بصحبة عرضي العثملي ومات قاسم بك مع من مات من الأمراء والصناجق بالشام فقلده الوزير الصنجقية فيمن تقلد وأدرك أمنيته فأقام قليلًا وهلك فيمن هلك بالطاعون فكان كما قال القائل فكان كالمتمني أن يرى فلقًا من الصباح فلما آن رآه عمي. ومات أيضًا حسن كاشف المعروف بجركس وهو أيضًا من مماليك محمد بك وإشراق عثمان بك الشرقاوي وكان من الفراعنة وهو الذي عمر الدار العظيمة بالناصرية وصرف عليها أموالًا عظيمة فما هو إلا أن تمم بناءها ولم يكمل بياضها حتى وصلت الفرنسيس فسكنها الفلكيون والمدبرون وأهل الحكمة والمهندسون فلذلك صينت من الخراب كما وقع بغيرها من الدور لكون عسكرهم لم يسكنوا بها وتقلد المذكور الصنجقية بالشام أيضًا ثم هلك بالطاعون. ومات الأمير حسن كتخدا المعروف بالجربان بالشام أيضًا وأصله من مماليك حسن بك الأزبكاوي وكان ممتهنًا في المماليك فسموه بالجربان لذلك فلما قتل أستاذه بقي هو لا يملك شيئًا فجلس بحانوت جهة الأزبكية يبيع فيها تنباكًا وصابونًا ثم سافر الى المنصورة فأقام بها مدة تحت قصر محمود جربجي ثم رجع الى مصر في أيام دولة علي بك وتنقلت به الأحوال فأنعم عليه علي بك بآمرية بناحية قبلي فلما حصلت الوحشة بين علي بك ومحمد بك وخرج محمد بك من مصر الى قبلي خرج إليه المترجم ولاقاه وقدم بين يديه ما كان عنده من الخيام واليرق والخيول وانضم إليه ولم يزل حتى تملك محمد بك واستوزر اسمعيل آغا الجلفي وكان يبغض المترجم لأمور بينهما فلم يزل حتى أوغر عليه صدر مخدومه وأدى به الحال الى الإقصاء والبعد الى أن انضم الي مراد بك وتقرب منه وكان مفوهًا لينًا مشاركًا قد حنكته الأيام والتجارب فجعله كتخداه ووزيره واشتهر ذكره وعمر دارًا بناحية باب اللوق بالقرب من غيظ الطواشي وصار من الأعيان المعدودين وقصدته أرباب الحاجات واحتجب في غالب الأوقات واتحد به محمد آغا البارودي فقربه من مراد بك وبلغ الى ما بلغ معه وكان يعتري المترجم مرض شبيه بالصرع فينقطع به أيامًا عن السعي والركوب ولم يزل حتى مات مع من مات بالشام. ومات الأمير قاسم بك المعروف بالموسقو وكان من مماليك ابراهيم بك وكان لين الجانب قليل الأذى إلا أنه كان شيخًا لا يدفع حقًا توجه عليه ولما مات خشداشه حسن بك الطحطاوي تزوج بزوجته وشرع في بناء السبيل المجاور لبيته بحارة قوصون بالقرب من الداودية فما قرب إتمامه إلا وقد قدمت الفرنسيس لمصر فخربوه وشعثوا بنيانه وخرقوا حيطانه وأخذوا عواميده وبقي على حالته مثل ما فعلوه بدور تلك الخطة وغيرها ومات أيضًا المترجم بالشام. ومات علي آغا كتخدا الجاويشية وهو من مماليك الدمياطي ونسب الى محمد بك وأخيه ابراهيم بك ورقاه واختص به ووالاه أغات مستحفظان في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف فلم يزل الى سنة ثمان وتسعين فخرج مع ابراهيم بك الى المنية عندما تغاضب مع مراد بك فلما تصالحها قلد الأغاوية كما كان فحنق قائد آغا وكان ما كان من عزله وولاية سليم آغا كما سبق الإلماع بذلك عند ذكر قائد آغا ثم تقلد كتخدا الجاويشيه في سنة ست ومائتين وألف ولم يزل متقلدًا ذلك حتى خرج مع من خرج في حادثة الفرنسيس وكان ذا مال وثروة مع مزيد شح وبخل واشترى دار عبد الرحمن كتخدا القازدغلي العظيمة التي بحارة عابدين وسكنها وليس له من المآثر إلا السبيل والكتاب الذي أنشأه بجوار داره الأخرى بدرب الحجر وهو من أحسن المباني وقد حماه الله من تخريب الفرنسيس وهو باق الى يومنا هذا ببهجته ورونقه. ومات الأمير يحيى كاشف الكبير وهو من مماليك ابراهيم بك الأقدمين وكان لطيف الطباع حسن الأوضاع وعنده ذوق وتودد عطارديًا يحسب الرسومات والنقوش والتصاوير والأشكال ودقائق الصناعات والكتب المشتملة على ذلك مثل كليلة ودمنة والنوادر والأمثال واهتم في بناء السبيل المجاور لداره بخطة عابدين فرسم شكله قبل الشروع فيه في قرطاس بمعونة الأسطا حسن الخياط ثم سافر الى الاسكندرية وأحضر ما يحتاجه من الرخام والأعمدة المرمر الكبيرة والصغيرة وأنواع الأخشاب وحفر أساسه وأحكم وضعه واستدعى الصناع والمرخمين فتأنقوا في صناعته ونقش رخامه على الرسم الذي رسمه لهم كل ذلك بالحفر بالآلات في الرخام وموهوه بالذهب فما هو إلا أن ارتفع بنيانه وتشيدت أركانه وظهر للعيان حسن قالبه وكاد يتم ما قصده من حسن مآربه حتى وقعت حادثة الفرنسيس فخرج مع من خرج قبل إتمامه وبقي على حالته الى الآن ولما خرج سكن داره برطلمين واستخرج مخبأة بين داره والسبيل فيها ذخائره ومتاعه فأوصلها للفرنسيس. ومات الأمير رشوان كاشف وهو من مماليك مراد بك وكان له أقطاع بالفيوم فكان معظم إقامته بها فاحتكر الورد وما يخرج من مائه والخل المتخذ من العنب والخيش واتجر في هذه البضائع بمراده واختياره وتحكم في الإقليم تحكم الملاك في أملاكهم وعبيدهم وذلك قوة واقتدار. ومات الأمير سليم كاشف بأسيوط مطعونًا وهو من مماليك عثمان بك المعروف بالجرجاوي من البيوت القديمة وخشداش عبد الرحمن بك عثمان المتوفى في سنة خمس ومائتين وألف بالطاعون الذي مات به اسمعيل بك وخلافه وتزوج ابنته بعد موته وكان ملتزمًا بحصة من أسيوط وشرق الناصري واستوطن بأسيوط وبنى بها دارًا عظيمة وعدة دور صغار وأنشأ بها عدة بساتين وغرس بها وبشرق الناصري أشجارًا كثيرة وعمر عدة قناطر وحفر ترعًا وصنع جسورًا وأسبلة في مفاوز الطرق وأنشأ دارًا بمصر بالمناخلية بسوق الأنماطيين واشترى دارًا جليلة كانت لسليمان بك المعروف بأبي نبوت بحارة عابدين وعمرها وزخرفها وأنشأ بأسيوط جامعًا عظيمًا ومكتبًا فما هو إلا أن أكمل بنيانه حتى قدمت الفرنسيس فاتخذوه سجنًا يسجنون به ثم لما قابل المذكور الفرنسيس وأمنوه أخذ في إصلاح ما تشعث من البناء وتقيم العمارة ولم يساعده الوقت إذ ذاك لقلة الأخشاب وآلات البناء فاشتغل بذلك على قدر طاقته فلما فرغ البناء وقارب التمام ولم يبق إلا اليسير وقع الطاعون بأسيوط فمات والمسجد باق على ما هو عليه الآن وهو من المباني العظيمة المزخرفة على هيئة مساجد مصر وكان المذكور ذا بأس وشدة وإقدام وشجاعة وتهور مشابه لحسن بك الجداوي في هذه الفعال وموائده مبسوطة وطعامه مبذول وداره بأسيوط مقصدًا للوارد والقاصد والصادر من الأمراء وغيرهم وله إغداقات وصدقات وأنواع من البر ومحبة في العمارة وغراس الأشجار واقتناء الأنعام وكان متزوجًا بثلاث زوجات إحداهن ابنة سيده عثمان بك توفيت بعصمته والثانية ابنة خشداشه عبد الرحمن المذكور آنفًا والثالثة زوجة علي كاشف المعروف بجمال الدين وكان ذا بأس وله صولة وظلم وتجاوزو على سفك الدماء فبذلك خافته عرب الناحية وأهل القرى وقاتل العرب مرارًا وقتل منهم الكثير وبسكناه بأسيوط كثرت عمارتها وأمنت طرقها برًا وبحرًا واستوطنها الكثير من الناس لحمايتها وعدم صولة أحد على أهلها وله مهاداة مع الأمراء المصرية وأرباب الحل والعقد بها والمتكلمين عندهم فيرسل إليهم الغلال والعبيد والجواري السود والطواشية وغير ذلك وله عدة مماليك بيض وسود أعتق كثيرًا من جملتهم عزيرتا الأمير أحمد كاشف المعروف بالشعراوي رقيق حواشي الطبع مهذب الأخلاق ذو فروسية في ركوب الخيل ومحبة في العلماء واللطفاء وهو من جملة محاسن سيده. ومات كل من الأمير باكير بك والأمير محمد بك تابع حسين بك كشكش كلاهما بالشام ومات غير هؤلاء ممن لم تحضرني أسماؤهم. وباستهلالها خف أمر الطاعون وفي ليلة الجمعة تلك أرسل عبد العال الآغا وأحضر الشيخ محمد الأمير ليلًا الى منزله فبيته عنده ولما أصبح النهار طلع به الى القلعة وحبسه عند المشايخ بجامع سارية والسبب في ذلك أن ولد الشيخ المذكور كان من جملة من يستحث الناس على قتال الفرنسيس في الواقعة السابقة بمصر فلما انقضت هرب الى جهة بحري ثم حضر بعد مدة الى مصر فأقام أيامًا ثم رجع الى قوة بإذن من الفرنسيس فلما حصلت هذه الحركة وتحذروا شدة التحذر وآخذوا الناس بأدنى شبهة وتقرب إليهم المنافقون بالتجسس والإغراء ذكر بعضهم ذلك لقائمقام وأدخل في مسامعه أن ابن الشيخ المذكور ذهب الى عرضي الوزير والتف عليهم فأرسل قائمقام الى الشيخ قبل تاريخه فلما حضر سأله عن ولده المذكور فأخبره أنه مقيم بفوة فقال له: لم يكن هناك وإنما هو عند القادمين قال له: لم يكن ذلك وإن شئتم إرسلت إليه بالحضور فقال له: أرسل إليه وأحضره فقام من عنده على ذلك وأمهله ثمانية أيام مدة مسافة الذهاب والمجيء ثم خاطبه على لسان وكيل الديوان أيضًا فوعده بحضوره أو حضور الجواب بعد يومين واعتذر بعدم أمن الطريق فلما انقضى اليومان أمروا عبد العال بطلبه وإصعاده الى القلعة ففعل. وفيه حضر جملة من عساكر الفرنساوية من جهة بحري وتواترت الأخبار بوصول القادمين من الانكليز والعثمانية الى الرحمانية وتملكهم القلعة ومابالقرب منها من الحصون الكائنة بالعطف وغيره وذلك يوم السبت خامس عشرين الحجة. وفيه حضرت زوجة ساري عسكر كبير الفرنسيس بصحبة أخيها السيد علي الرشيدي أحد أعضاء الديوان وكان خرج بها من رشيد حين ما ملكها القادمون ونزل بها في مركب وأرسى بها قبالة الرحمانية فلما حصلت واقعة الرحمانية وأخذت قلعتها حضر بها الى مصر بعد مشقة وخوف من العربان وقطاع الطريق وغير ذلك فأقامت هي وأخوها ببيت الألفي بالأزبية نحو ثلاثة أيام ثم صعدا الى القلعة. وفيه قربت العساكر القادمة من الجهة الشرقية وحضرت طوالعهم الى القليوبية والمنير والخانكة لأخذ الكلف فتأهب قائمقام بليار للقائهم وأمر العساكر بالخروج من أول الليل ثم خرج هو في آخر الليل فلما كان يوم الأحد رابعه رجع قائمقام ومن معه ووقع بينه وبينهم مناوشة فلم يثبت الفرنسيس لقلتهم ورجعوا مهزومين وكتموا أمرهم ولم يذكروا شيئًا. وفي خامسه رفعوا الطلب عن الناس بباقي نصف المليون وأظهروا الرفق بالناس والسرور بهم لعدم قيامهم عند خروجهم للحرب وخلوا البلدة منهم وكان يظنون منهم غير ذلك. وفيه أخذت جملة من عدد الطواحين وأصعدت الى القلعة وأكثروا من نقل الماء والدقيق والأقوات إليها وكذلك البارود والكبريت والجلل والقنابر والبنب ونقلوا ما في الأسوار والبيوت من الأمتعة والفرش والأسرة وحملوه إليها ولم يبقوا بالقلاع الصغار إلا مهمات الحرب. وفيه طلبوا الزياتين وألزموهم بمائتي قنطار شيرج وسمروا جملة من حوانيتهم وخرج جماعة من الجزارين لشراء الغنم من القرى القريبة فقبض عليهم عساكر العثمانية القادمة ومنعوهم من العود بالغنم والبقر وكذلك منعوا الفلاحين الذين يجلبون الميرة والأقوات الى المدينة. فانقطع الوارد من الجهات البحرية والقليوبية وعزت الأقوات وشح اللحم والسمن جدًا وأغلقت حوانيت الجزارين واجتهد الفرنساوية في وضع متاريس خارج البلد من الجهة الشرقية والبحرية وحفروا خنادق وطلبوا الفعلة للعمل فكانوا يقبضون على كل من وجدوه ويسوقونهم للعمل وكذلك فعلوا بجهة القرافة وألقوا الأحجار العظيمة والمراكب ببحر انبابة لتمنع المراكب من العبور وابتدأوا المتاريس البحرية من باب الحديد ممدودة الى قنطرة الليمون الى قصر إفرنج أحمد إلى السبتية إلى مجرى البحر.
|